“من أنا؟ وأين أذهب؟ القلق الوجودي يطارد شباب الجيل الرقمي
كتبت سعاد منسي

في الوقت الذي تبدو فيه الحياة أكثر اتصالًا وسرعة من أي وقت مضى، يجد كثير من الشباب أنفسهم غارقين في تساؤلات وجودية تفتقر إلى إجابات واضحة. لماذا نعيش؟ ما معنى ما نفعله؟ ما الهدف الحقيقي من الحياة؟ هذه ليست فقط أسئلة فلسفية عابرة، بل أصبحت محور قلق عميق يؤثر على جودة حياة العديد من الشباب المعاصرين. فبين ضغط الدراسة، والمقارنات اليومية عبر السوشيال ميديا، وتضخم التوقعات الذاتية، يتحول هذا القلق إلى حالة مزمنة تُعرف باسم “القلق الوجودي”.
ما هو القلق الوجودي؟
القلق الوجودي هو نوع خاص من القلق النفسي، ينشأ عندما يصطدم الإنسان بأسئلة تتعلق بالهوية، والموت، والحرية، والمعنى، والمسؤولية. على عكس القلق المرتبط بالمواقف الحياتية (كالقلق من الامتحان أو الوظيفة)، فإن القلق الوجودي يرتبط بمفاهيم أعمق وأشمل.
تاريخيًا، ناقش الفلاسفة هذا النوع من القلق منذ قرون، بدءًا من كيركجارد ونيتشه وحتى سارتر، إلا أن الاهتمام الطبي والنفسي به ازداد مؤخرًا مع تفشي مشاعر الفراغ والضياع بين الأجيال الجديدة.
لماذا يصيب القلق الوجودي الشباب حاليًا؟
- الانفتاح المعرفي السريع:
لم يعد الوصول إلى الأفكار والمعتقدات والفلسفات الدينية واللادينية يتطلب سنوات من البحث؛ بل بضغطة زر، ينكشف أمام الشاب عالَم متنوع، قد يربكه بدل أن يرشده. - غياب المعنى المهني أو الشخصي:
كثير من الشباب يعملون في وظائف لا يحبونها، أو يدرسون تخصصات لا يشعرون بالانتماء لها، مما يعزز شعور “اللاجدوى”. - المقارنة المستمرة:
وسائل التواصل جعلت الجميع يعرضون “النسخة المثالية” من حياتهم. هذا يدفع الشاب للمقارنة والتساؤل: لماذا لا أشعر بالسعادة مثلهم؟ هل أعيش الحياة بشكل خاطئ؟ - اضطراب الهوية بعد سن المراهقة:
ينتقل الشاب من مرحلة كان يُعرّف نفسه فيها بأسرته أو مدرسته، إلى مرحلة عليه فيها أن يكوّن نفسه بشكل مستقل، وهنا يظهر الصراع الداخلي.
أعراض القلق الوجودي:
- الشعور المستمر بالفراغ أو “اللاشيء”
- صعوبة الاستمتاع باللحظات العادية
- التفكير المفرط في الموت أو نهاية الحياة
- فقدان الدافع أو الحماس لأي نشاط
- نوبات قلق أو اكتئاب دون سبب واضح
- شعور بالعزلة أو بعدم الانتماء لأي مجموعة
هل القلق الوجودي مرض نفسي؟
لا يُصنّف القلق الوجودي كتشخيص مرضي مستقل في الدليل التشخيصي للأمراض النفسية (DSM-5)، لكنه قد يكون أرضًا خصبة لتطوّر حالات مثل:
- الاكتئاب المزمن
- اضطراب القلق العام
- اضطراب الهوية أو الانفصال النفسي
كيف يمكن التعامل معه؟
1. العلاج المعرفي الوجودي (Existential Therapy):
يركز هذا النوع من العلاج على مساعدة الشخص في اكتشاف المعنى الشخصي لحياته، وتقبّل الغموض والقلق الوجودي بدلًا من الهروب منه.
2. المشاركة في أنشطة لها معنى:
كالعمل التطوعي، أو المشاريع الاجتماعية، أو حتى الهوايات الفنية. المعنى لا يُمنَح بل يُصنع.
3. تقوية الجوانب الروحية أو الفلسفية:
سواء عبر الدين أو التأمل أو الفلسفة أو حتى قراءة السير الذاتية لأشخاص تجاوزوا نفس القلق، كل ذلك يساعد على بناء تصور أوسع للحياة.
4. الانفصال عن المقارنة الرقمية:
تقليل وقت السوشيال ميديا وتذكير النفس بأن ما يُعرض ليس الواقع الكامل.
5. طلب المساعدة النفسية المحترفة:
في حال تحوّل القلق إلى اكتئاب أو نوبات هلع، من الضروري التوجه إلى معالج نفسي مختص.
شهادات حية من شباب حاليين
- “بشتغل في شركة كبيرة، وباخد مرتب كويس، بس كل يوم بصحى بسأل نفسي: ليه؟ أنا بعمل كل ده ليه؟”
- “أنا بحس إني بعيش حياة مش بتاعتي، وكأني باتفرج على نفسي وأنا بمثّل دور مش لايق عليّ.”
- “الأسئلة مش بتقف… بحاول أركز في يومي، بس دماغي بتسحبني على حاجات أكبر مني.”
هل يمكن أن يكون القلق الوجودي إيجابيًا؟
في بعض الأحيان، نعم. قد يكون القلق الوجودي دافعًا قويًا للتغيير، للبحث عن معنى، لتكوين هوية حقيقية بعيدًا عن الضغط الاجتماعي. كثير من المبدعين والكتّاب خرجوا من أزمات وجودية بأفكار غيّرت العالم.
خلاصة:
القلق الوجودي ليس ترفًا فكريًا ولا ضعفًا نفسيًا، بل هو انعكاس لعصر مليء بالتغيرات والتحديات. إدراكه وفهمه هو الخطوة الأولى للتعامل معه. لا عيب في أن نسأل: “لماذا نعيش؟”، لكن المهم هو أن نُصغي لصوتنا الداخلي ونحن نحاول الإجابة.