عقل مشغول بلا توقف: اضطراب الاجترار الفكري وعلاقته بالقلق المزمن

هل شعرت يومًا بأنك أسير فكرة واحدة تدور في رأسك بلا توقف؟ هل تكرر نفس المشهد أو الموقف المؤلم في عقلك مرارًا، رغم أنك تدرك أنه لا فائدة من التفكير فيه؟ هذه ليست مجرد “شرود ذهني”، بل قد تكون علامة على ما يُعرف طبيًا بـ اضطراب الاجترار الفكري، أحد أبرز محركات القلق المزمن.

ويشرح د. طارق ممدوح، استشاري الطب النفسي، في تصريحات خاصة لـ منصة طب توداي، أن الاجترار هو نمط تفكير قهري يدفع العقل إلى تكرار نفس الفكرة أو المشهد أو الخطأ دون قدرة حقيقية على التوقف، مما يُفاقم من حدة القلق والتوتر ويُمهّد لأمراض نفسية أخرى.

ما هو اضطراب الاجترار الفكري؟

الاجترار الفكري (Rumination) هو ميل الشخص إلى التفكير الزائد والمتكرر في مشكلة أو موقف سلبي أو فكرة مزعجة، دون التوصّل إلى حل فعلي.
وعلى عكس “التأمل” أو “المراجعة الذاتية”، فإن الاجترار لا يُنتج قرارات أو نموًا، بل يزيد من الشعور بالفشل والعجز والتوتر.

يقول د. طارق ممدوح:
“المريض المُجتر لا يخطط للمستقبل، ولا يتعلّم من الماضي… هو فقط يُعيد الماضي إلى الحاضر، ويعيش فيه عقليًا طوال الوقت.”

هل الاجترار نوع من التفكير الطبيعي؟

لا.
رغم أن التفكير في مشكلات الحياة أمر طبيعي، إلا أن الاجترار يتميز بـ:

ما علاقة الاجترار بالقلق؟

• القلق يغذي الاجترار، لأن الدماغ يرفض التوقف عن تحليل الموقف أو الخوف أو الخطأ.
• الاجترار بدوره يطيل أمد القلق ويجعله مزمنًا.
• الشخص يدخل في دائرة مغلقة: يفكر ليقلق، ويقلق لأنه يُفكّر.

وتوضح منصة طب توداي أن هذه العلاقة المترابطة تجعل من الصعب كسر الحلقة دون تدخل نفسي متخصص.

أبرز المواقف التي تُحرّك الاجترار:

• الشعور بالندم على قرار خاطئ.
• فقدان شخص عزيز أو انتهاء علاقة.
• الإحساس بالفشل المهني أو الدراسي.
• المواقف المحرجة أو المؤلمة في الطفولة.
• التوقعات السلبية عن المستقبل.

كيف يختلف الاجترار عن التفكير الإيجابي؟

• التفكير الإيجابي يحلل ويتجاوز، أما الاجترار فيُعيد المشهد دون نهاية.
• التفكير الإيجابي يفتح خيارات، والاجترار يعلق في خيار واحد مستحيل أو مؤلم.
• التفكير الإيجابي يُفضي إلى الفعل، والاجترار يُفضي إلى الشلل العقلي والنفسي.

من هم الأكثر عرضة للإصابة؟

وفقًا لدراسات حديثة، فإن:

• النساء أكثر عرضة للاجترار من الرجال بنسبة تصل إلى 60%.
• مرضى القلق العام واضطراب الوسواس القهري.
• من لديهم شخصية تحليلية أو حساسة مفرطة.
• من مرّوا بتجارب صادمة لم يتم معالجتها نفسيًا.
• من تربوا في بيئة ناقدة أو صارمة.

ما الأعراض الدالة على اضطراب الاجترار؟

• التفكير في نفس المشكلة مرارًا طوال اليوم.
• صعوبة في النوم بسبب “زحمة الأفكار”.
• ضعف في التركيز أو الإنجاز المهني.
• الإحساس بالعجز أو الذنب.
• تراجع القدرة على اتخاذ القرارات.
• تفاقم أعراض القلق أو الاكتئاب.

كيف يتم التشخيص؟

لا يوجد اختبار طبي مباشر، لكن الطبيب النفسي يُشخص الحالة من خلال:

• المقابلة النفسية وتحليل نمط التفكير.
• استبيانات معيارية مثل: RRS (Ruminative Responses Scale).
• استبعاد اضطرابات أخرى مثل الوسواس أو الاكتئاب الحاد.

ما العلاج؟ وهل يمكن التخلص منه؟

نعم، يمكن علاجه بفعالية من خلال:

1. العلاج المعرفي السلوكي (CBT):

يركز على إعادة بناء نمط التفكير، وتعليم المريض كيف يوقف اجترار الفكرة بمجرد ملاحظتها.

2. تمارين الانتباه الكامل (Mindfulness):

تهدف إلى تدريب العقل على العيش في اللحظة، لا في الماضي أو المستقبل.

3. أدوية مضادة للقلق أو الاكتئاب (عند الحاجة):

يتم وصفها بحذر إذا ترافق الاجترار مع نوبات هلع أو اكتئاب شديد.

4. تمارين كتابية سلوكية:

مثل: “توقيت التفكير السلبي”، حيث يُسمح للمريض بإفراغ أفكاره في وقت محدد فقط من اليوم.

نصائح “طب توداي” للسيطرة على الاجترار:

1. كن واعيًا: أول خطوة هي ملاحظة أنك تجتر فكرة بلا جدوى.
2. اكتبها: تفريغ الفكرة على الورق يقلل من احتجازها ذهنيًا.
3. مارس التأمل أو التنفس العميق.
4. حدد وقتًا للقلق، ولا تسمح له بالسيطرة طوال اليوم.
5. ابتعد عن المحفزات: مثل العزلة أو التواجد في أماكن تُذكّرك بالحدث المؤلم.
6. تواصل مع متخصص إذا استمر الأمر لأكثر من 3 أشهر.

في الختام

الاجترار الفكري ليس تفكيرًا عاديًا، بل اضطراب نفسي له جذور عصبية ومعرفية، وقد يكون البوابة التي يُطل منها القلق المزمن والاكتئاب.
وتؤكد منصة طب توداي أن التخلص من هذا النمط العقلي يبدأ بالإدراك، ويكتمل بالعلاج السلوكي والوعي المستمر، فلا تُهمّش أفكارك ولا تتركها تأكلك بصمت.

حقوق النشر محفوظة لمنصة طب توداي
منصة طب توداي هي المنصة الأهم والأكبر والأولى في مصر والمنطقة العربية