من الفن إلى الفتن.. كيف هدمت المسلسلات والأفلام قيم المجتمع؟!

كتبت - هدى عبد الجليل

الفن رسالة عظيمة، يمكنه أن يهذب السلوك، ويرتقي بالأخلاق، وينشر ثقافة الحب والسلام والتسامح. لكن ما نراه اليوم من مسلسلات وأفلام أصبح في كثير من الأحيان وسيلة لتمرير رسائل هدامة تُفكك روابط المجتمع وتُضعف تماسك الأسرة وتُشوه صورة القيم الأصيلة.
فهل الفن يعبّر عن الواقع أم يصنعه؟ وهل ما تعرضه الشاشة يساهم في النهوض بالأخلاق أم في الانحدار بها؟ دعونا نستعرض هذا الملف الشائك، ونحلل كيف تحولت بعض الأعمال الفنية إلى أدوات خطيرة لهدم القيم الاجتماعية.


أولاً: الفن بين رسالة الإصلاح وأجندات الإفساد

في الزمن الجميل، كانت الأعمال الفنية تحمل رسائل نبيلة مثل تعزيز الانتماء الوطني، وغرس القيم الأسرية، والاعتزاز بالهوية الدينية والثقافية. أما اليوم، فقد أصبحت الكثير من المسلسلات والأفلام تقدم نماذج مضطربة، وتطبع الانحراف، وتروج لأنماط حياة شاذة تحت ستار “الواقعية”.

نجد مثلاً الشخصيات البطولية في كثير من الأعمال تميل إلى العنف، أو الخيانة، أو الانحلال الأخلاقي، وكأن هذه السلوكيات أمر عادي بل ومطلوب. الفتاة الجريئة التي تتمرد على أسرتها تُقدم كأنها “بطلة”، والرجل الذي يخون زوجته يُبرر له، والفساد يُعرض كأنه “شطارة”، وكل هذا يمر مرور الكرام على المشاهد.


ثانيًا: التطبيع مع الانحراف.. تكرار يرسّخ السلوك

حينما يتم تكرار مشاهد معينة مثل الخيانة الزوجية، وتناول المخدرات، والعلاقات خارج إطار الزواج، والصراعات الأسرية، يصبح المشاهد مع الوقت متبلدًا أمامها.
الخطورة هنا ليست فقط في العرض، بل في التطبيع معها؛ حيث يتحول السلوك المنبوذ إلى أمر مألوف، وربما يُحتذى به!

كم من طفل أو مراهق تأثر بشخصية منحرفة قدمها مسلسل على أنها “كول”؟ وكم من فتاة أعجبت بسيدة خانت زوجها في دراما رومانسية قدمت الخيانة على أنها “حب حقيقي”؟
إن التطبيع مع القبح أسوأ من القبح نفسه.


ثالثًا: تدمير صورة الأسرة ودور الأب والأم

واحدة من أخطر ما تقدمه بعض الأعمال الدرامية هي تشويه صورة الأسرة، التي تعتبر نواة المجتمع.
فالأب يظهر دائمًا على أنه ضعيف، أو مغيب، أو مستبد، بينما الأم إما ساذجة أو خائنة أو غير قادرة على إدارة بيتها.
الأبناء يتمردون دون سبب منطقي، والطلاق يُعرض على أنه “حرية”، والزواج يُصوَّر على أنه “سجن”.

هذه الرسائل المبطنة تضعف الثقة داخل الأسرة وتبث الفوضى في العلاقات بين الزوجين أو بين الأهل والأبناء.
وهكذا يتم غرس قناعة خبيثة: أن الأسرة عبء، والحرية الحقيقية في الابتعاد عنها!


رابعًا: العنف والجريمة كوسيلة للحل

العديد من الأفلام اليوم، خاصة تلك المصنفة “أكشن” أو “واقعية”، تروج لفكرة أن القوة تُؤخذ باليد، وأن القانون لا يحمي إلا الجبناء، وأن العنف هو أسرع الطرق لتحقيق الأهداف.
من هنا ينشأ جيل لا يحترم القانون، ولا يعرف الحوار، ولا يتقن سوى الضرب والبلطجة.

حينما يرى المراهق أن “البطل” يحصل على المال والسلطة بالقتل أو الاتجار في المخدرات، فإنه لا يعود يرى شيئًا خطأ في ذلك، بل قد يُحاكيه يومًا ما إن وجد الفرصة.


خامسًا: المرأة بين المبالغة والتسليع

من جهة، هناك مسلسلات تُفرط في تهميش دور المرأة الحقيقي كأم وزوجة ومعلمة ومربية أجيال، وتُظهرها فقط في صورة “جميلة ومغرية”.
ومن جهة أخرى، هناك أعمال تروج لفكرة أن المرأة لا تُحقق ذاتها إلا إذا تخلت عن الحياء، ودخلت في صراعات ذكورية، وتخلت عن مسؤولياتها الأسرية.

هذه الصور المبالغ فيها للمرأة إما تسلعها جسديًا، أو تُحملها أدوارًا لا تتماشى مع طبيعتها، وفي الحالتين يتم تدمير التوازن الاجتماعي.


سادسًا: أزمة القدوة.. غياب النماذج الملهمة

في الزمن الماضي، كنا نرى في الأفلام من يُجسد الطبيب الشريف، أو المعلم القدوة، أو الأب الحنون، أو المجاهد الوطني.
أما اليوم، فالنماذج التي تُسلط عليها الأضواء إما لص أو خائن أو متحرر أخلاقيًا.
فأين القدوة الصالحة؟ أين نماذج النجاح الحقيقي القائم على الجهد والاحترام والعمل؟

حين يفقد المجتمع قدوته، تنهار منظومته الأخلاقية، ويفقد الشباب البوصلة، ولا يعرفون من يحتذون به.


سابعًا: تأثير المسلسلات على الأطفال والمراهقين

الأطفال والمراهقون هم الأكثر تأثرًا بما يُعرض على الشاشات، خاصة في ظل غياب الرقابة الأسرية.
مشاهد العنف، والتدخين، والكحول، والكلمات النابية، واللباس غير المحتشم، تخلق جيلًا ممسوخ القيم، لا يعرف معنى الحياء، ولا يحترم التقاليد.

الأخطر أن هذه الفئة تتخذ من نجوم هذه الأعمال قدوة ومثلًا أعلى، فتجد الطفل يقلد حركة الممثل، أو طريقة كلامه، أو سلوكه، دون وعي بخطورتها.


ثامنًا: الفن في خدمة الأجندات الخارجية

لا يمكن تجاهل أن بعض الأعمال الفنية لا تُنتج فقط من أجل الترفيه، بل لخدمة أجندات محددة.
سواء كانت سياسية أو ثقافية أو اقتصادية، يُراد من خلالها تفكيك الهوية العربية، وخلخلة القيم الدينية، واستبدال ثقافة “العفة والاستقامة” بثقافة “الانفتاح المبتذل”.

حينما يتم تمجيد المثليين، أو السخرية من رجال الدين، أو تقديم العادات الغربية على أنها “تقدم”، يُصبح العمل أداة غزو ناعم لهدم القيم من الداخل.


تاسعًا: ما الحل؟ هل نقاطع الفن كله؟

ليس المطلوب أبدًا مقاطعة الفن، بل إعادة توجيهه، وتطهيره من التلوث الأخلاقي الذي أصابه.
نحتاج إلى رقابة أكثر جدية، ودعم للأعمال الهادفة، وتفعيل دور الأسرة في توعية الأبناء.

كما يجب على المشاهد أن يكون ناقدًا ذكيًا، لا يتلقى المحتوى بعفوية، بل يُحلل ما يُعرض عليه ويختار بعناية ما يشاهده هو وأسرته.


خلاصة القول: الفن إمّا أن يُصلح المجتمع أو يُدمره!

الفن أداة خطيرة، قد ترفع الشعوب أو تهوي بها. ومثلما كانت بعض الأعمال في الماضي ترسخ القيم والمبادئ، أصبح كثير من المسلسلات والأفلام اليوم يُهدم من خلالها ما بُني عبر قرون من التقاليد والمعتقدات.

فلننتبه، ولنحافظ على ما تبقى من نُبل هذا المجتمع، ولندعم كل عمل يُعلي من القيم لا يهدمها، يُربي لا يُفسد، يُنير لا يُضلل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى